الأخبار

"حال الشّباب..جيلُنا ضائع أم مُضيع؟"




كتب: بلال الذنيبات

 ذات ليلة، كان يشكو صديقًا لي، حال الشّباب، ناعتًا إياهم بأنهم بلا هدف، ضائعين، منشغلين بسفاسف الأمور، على منصات التواصل الاجتماعي الرقمية، قائلاً أنهم هائمين على وجوههم في الشوارع والأزقة، يستمعون للأغاني الصاخبة، ويمارسون "التفحيط" في مركباتهم، متجاوزين بذالك القانون والآداب العامة.

لم يدر في خُلد الصديق، أن مقارنته حال هذا الجيل بالأجيال السالفة، مقارنة ظالمة، إذ لم تكن الأجيال السالفة، على غير هدى في معايير سلوكها الاجتماعي، ولا كانت مشوشة كما هو حال جيلنا اليوم.

يعبر البعض، عن حالة "الصدمة"، سواء أكان هذا التعبير حقيقيًا، أو تعبيرًا للاستهلاك والظهور بالمظهر الشعبوي، حيث يشن البعض هجومًا على الشباب المتسكعين في الدواوير، وأولئك الذين يمارسون سلوكات كانت مرفوضة قبل بضع سنوات، مثل التصوير لأدق الخصوصيات ونشرها على الملأ، كما ويعبر الكبار عن رؤيتهم للجيل الراهن، متهمين إياه بانعدام الشعور بالمسؤولية، وفقدان البوصلة في الحياة، واضمحلال دافعيتهم للانخراط في مضامير  الحياة المتشعبة.

كُل هؤلاء ظلموا الجيل، فهذا الجيل الذي عاش أسوأ الظروف، ويواجه يوميًا حالة من اللاتوازن على كافة الصعد،  ولا يملك أي معايير واضحة حتى يتمثلها، كما كانت الأجيال القديمة،  كما وتعرض هذا الجيل، للتربية على يد من لا يملك التربية أصلاً، كما يعرفها الجيل القديم، والأجيال القادمة ستكون أكثر ضياعا، مع سيطرة المربي غير المُربى على تربية أطفالنا اليوم، ممثلا بالهاتف النقال.

كم حذرنا في مقالات سابقة، وكم دققنا نواقيس الخطر، وقلنا أننا بحاجة إلى إصلاحات حقيقية، ولم تكن صرخاتنا مُغيبة عن صالونات صانعي القرار في بلادنا، ورغم التشوه الذي نال دورات المقبلين على الزواج، فإن مادة علوم النفس والاجتماع، تمثل قفزة جديدة في محاولة إعادة تصويب الحالة.

في مطالعة للإطار الخاص بتلك المادة، إلى جانب نسخة الفصل الأول، من تلك المادة، نستشف التركيز على بناء وإعادة بناء الإنسان، وإن كان تأثير المادة يُقاس بالسنوات القادمة، ولا يمكن أن يكون ذالك خلال بضع سنوات فحسب، بل وأننا نرصد في القراءة الأولية للمُقرر المدرسي، الجدية في إعادة صناعة الشّباب الأردني الذي يحمل رؤية ورسالة في حياته.

لم يكن الأمر مبكرًا، بل كان متأخرًا، فقد لحقت عدة دول عربية شقيقة، في ركب تعليم هذه المواد في هاته المرحلة العمرية تحديدًا، كي تشيع مرونة الفكر والتحرر من عبودية المعلومات المغلقة أبوابها عن النقد والتمحيص العقلاني، ونحن أمة إقرأ، وتفكر، وتدبر!

ربما يكون لنا وقفة مطولة عند تحليل المادة لاحقا، ولكن هذه الأجيال، لا تستحق منا، أقل من التطوير المتسارع، كي نرتقي إلى مستواها الزمني، حتى نتمكن من تعليمها كيفية الاختيار، في زمن فقد المجتمع معاييره، وبات عرضة لغزوات سيبرانية وثقافية في ساعة من عمره، حيث لم يعد بالإمكان إخفاء المساوئ التي تنضح بها الفضاءات السيبرانية، ولا الضحك على عقولهم، في ظل حالة الفُصام الاجتماعي، بين ما يُنظر عليه من قيم ومبادئ، ويشاهد من أخرى تُعلى قيمتها، إن كان صراحة أو رمزًا.

ففي المجتمع الأردني، يُرفض الفساد مثلاً، ولكن يبرر الفساد عندما يتعلق بذواتنا، ويجأر الناس بالشكوى من حالة التطبيب، ولكن لا يحبذ فرض المزيد والمزيد من القيود على دخول غير ذو الكفاءة في حقل الطب مثلا، وقل هذا في حقول الهندسة والتجارة والصناعة والخدمات وغيرها، فنحن نقول ما لا نستحسن فعله.

وفي ظل تعدد مصادر التربية والتنشئة، وغياب الرؤية لتلك المصادر، بما فيها الفضاء السيبراني، يُطالب الشباب في مفارقة عجيبة، بوجود رؤية واضحة لهم، جد هذا الأمر يدعوا للاستفزاز، كيف من الممكن مثلاً أن نطلب من شاب معين أن يمتنع عن ممارسة سلوك ما، ويرى في ذات الحين، أن من يتجرأ على فعل هذا السلوك يحمد ويصفق له.

وفي بلدٍ إعلامه، ينشغل في رصد "سفرات" أم نمر، مع التقدير لذاتها طبعا، يلهج البعض باتهام الشباب بالفراغ، خصوصا وأن الإعلام والتعليم والثقافة وكل مؤسسات المجتمع البنيوية وتلك المطالبة بالتربية، تحولت إلى مجرد مؤسسات هدفها الربح، وصناعة الترندات، أحد الصحفيات الفاضلات قالت لا تلوموا المواقع، فهي بحاجة لكسب لقمة عيش موظفيها..أنا لا أخالفها الرأي، ولكن المسؤول بالتالي هو "نحن" جميعا.

غياب التخطيط، والتنظيم، وترك الكثير من القضايا التربوية للشنص والحظ، والزعم المتكرر بأننا مجتمع "محافظ"، أوغلت في هذه المحافظة، وصنعت شبابا منحرفين، وعزز من ظهور جرائم مستحدثة، لم تكن لولا أحسنا التربية بما ينسجم مع التطور، فمادة مثل علم النفس والاجتماع، تأخر تدريسها كثيرا، خشية من ردات الفعل، والناس في الشارع يستغلون أي تطوير للانتقاد والتعبير عن نظرة التشكيك بالنوايا.

  لم تكن مسألة التربية، محصورة في دفوف الكتب المدرسية-مع الإجلال لها، ولم يكن في بلدنا يومًا من يملك شرعية الإساءة للدين الإسلامي، والذي يخشى أولئك عليه-كما يدعون، رغم كوننا دولة مُسلمة في طابعها العام، ونظامها السياسي جذره وبنيته الأساسية هي الإسلام في الأصل، ولكن المشكلة ليست في دفوف الكتب، بل في عدم التخطيط لما نريده كدولة، ومن هو الشخص الذي نريده، أقصد بالتحديد، ماذا نريد لشبابنا أن يكونوا؟

التربية مسؤولية جمعية، تجمع المدرسة ودور العبادة والإعلام-بما فيه الفضاء السيبراني-هذا منفلت من أي عقال، إلى جانب الأسرة ومؤسسات المجتمع المدني والجامعات، أي من هذه المؤسسات مسؤولية في جانب ما عن تربية الشباب.

ذات يوم، تعرضتُ للإدعاء بأني "أسخر" من أحدهم، لأنني كنت أناقش موضوعا جدليًا، ونحن في العلوم الاجتماعية، لا نؤمن بالمسلمات والحقائق المطلقة، فكان هذا مدعاة للاستغراب، سيما وأنه من المتوقع أن يفرق الواحد منا بين فعل "السخرية"، والحوارات حول الأفكار التي تدور في أروقة بيوتنا الأكاديمية كطلبة، وأساتذة، نحاول أن نمارس شيئًا من "حرية التفكير"، وتدبر ما نقرأ، كي نصنع من ذواتنا ذات قادرة على تقبل الأراء، والتأدب بأدب الحوار والنقاش والخلاف في "وجهات النظر"، مع تعدد مناظيرنا الفكرية، ولكن ونحن النخب-كما يفترض، يوجد بيننا من يعتقد أن الحوار والنقد هو أداة "للسخرية" ويا للعجب!

ويأتي من يستغرب أن نموذج الحوار الناجح لدينا، هو "الاتجاه المعاكس"، حيث تشتغل الأجسام الطائرة أحيانا بين المتحاورين، سيما المختلفين في وجهات النظر، إلى جانب سيل السب والشتم بأقذع ما يمكن أن يتصور عقل سوي من كلمات.

يُجابه شبابنا اليوم، بسطحية التفكير، وهذا ظلم، في ضوء منظومة تعليمية لا ترى سوى التحفيظ، كما كانت الكتاتيب يومًا ما، وحتى في أعلى سلم الدراسة والتعليم، الممثل بالدراسات العليا- والتي من المفترض أن تكون بارعة في صناعة قيم الحوار والاختلاف والتعلم المستدام،  وقيم التفكير الناقد، والتعليم الذي لا شخصنة فيه، فكيف لنا أن نطالب شبابنا في ضوء هذه المنظومة التبصيمية، بالتفكير والمرونة في التعامل مع معتركات الحياة، ونحن لا نرى سوى نموذج ذالك الذي  لم يحتمل تساؤلات صحفية في أحد الفضائيات العربية، فراح يطبق نموذج الاتجاه المعاكس، بدلاً من المحاورة بالتي هي أحسن، كما يفترض.

يهرب شبابنا، من واقع غريب، يشدهم نحو اتجاهات متعارضة، فيسلكون مسالك التدخين الشره، والتفحيط والأغاني، وربما الانحرافات التي ترقى إلى مستوى جرائم، اعترافا منهم بالعجز، عن مواجهة "اللامعيارية" التي نعيشها في مجتمعنا الأردني العزيز، وهذا ليس تبريرًا، ولكن تأكيدًا على مسؤولية الجميع في إعادة تربية أبنائنا تربية صحيحة، تساهم في مواجهة المشاكل والتحديات التي تواجههم في حياتهم الراهنة.

يعيش المجتمع الأردني، ورغم دخول عمر الدولة المئوية الثانية، حالة من عدم الاستقرار، بالتأكيد للعوامل الاقليمية دورًا ما، ولكن في الداخل الأردني، تعاني مؤسسات المجتمع البنيوية من التغير غير المدروس، وانعدام الاستقرار، فلا التشريعات مستقرة، ونحن أمام تشريعات تعدل خلال مدد زمنية قصيرة، ولا التعليم مستقر، ونحن منذ حقبة "خالد طوقان"، لم نرى الاستقرار في شكل التعليم، ولا الإعلام، ونحن كنا نسمع أن أحد الفضائيات ستكون منافسة للفضائيات الإخبارية الكُبرى، ولا فيما نريد فعله، ونحن لدينا لكل قطاع مجموعة من الشخصيات الاعتبارية-مؤسسات وهيئات، كل منها تعمل في نسق خاص فيها، لا تعرف للتشاركية في الجهد بابًا، كما هو الظاهر على الأقل.

(الذنيبات نيوز)

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-